فصل: ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم **


 ثم دخلت سنة سبع وتسعين ومائة

فمن الحوادث فيها‏:‏ أن القاسم بن الرشيد ومنصور بن المهدي خرجا من العراق فلحقا بالمأمون فوجه المأمون القاسم إلى جرجان وصفة ما جرى‏:‏ أن زهير بن المسيب نزل قصرًا بكلواذى ونصب المجانيق والعرادات وحفر الخنادق وجعل يخرج في الأيام عند اشتغال الجند بحرب طاهر فيرمي بالعرادات مَنْ أقبل وأدبر ويعشر أموال التجار وبلغ من الناس كل مبلغ فشكوا ذلك إلى طاهر وبِلغ هرثمة ذلك فأمده بالجنود وسكت الناس ونزل هرثمة نهر بين وجعل عليه حائطًا وخندقًَا وأعد المجانيق والعرادات وأنزل عبد الله بن الوضاح الشماسية ونزل طاهر البستان بباب الأنبار فانزعج لذلك الأمين ونفد ما كان عنده فأمر ببيع ما في الخزائن من الأمتعة وضرب آنية الذهب والفضة دنانير ودراهم وكان فيمن استأمن إلى طاهر‏:‏ سعيد بن مالك بن قادم مولى ناجية فولاه ناحية البغيِّين والأسواق هنالك وشاطئ دجلة ووكل بطريق دار الرقيق وباب الشام واحدًا بعد واحد وكثر الخراب والهدم حتى درست محاسن بغداد وأرسل طاهر إلى الأرباض من طريق الأنبار وباب الكوفة وما يليها فكل ناحية أجابه أهلها خندق عليهم ووضع مسالحه ومن أبى قاتله وأحرق منزله فذلت الأجناد وتواكلت عن القتال وبقي أهل السجون والأوباش والرعاع والطرّارين وكان حاتم بن الصقر قد أباحهم النهب وخرج من أصحاب طاهر رجل من أصحاب النجدة والبأس فنظر إلى قوم عراة لا سلاح معهم فقال لأصحابه‏:‏ ما يقابلنا إلا من أرى استهانة بهم ‏.‏

فقالوا‏:‏ نعم هؤلاء هم الآفة ‏.‏

فقال‏:‏ أفٍّ لكم حين تنكصون عن هؤلاء ولا عُدّة لهم ‏.‏

فأوتر قوسه وتقدم فقصده أحدهم وفي يده باريّة مُقَيَّرة وتحت إبطه مخلاة فيها حجارة فجعل الخراساني كلما رمى بسهم استتر منه العيَّار فيأخذه من باريته فيجعله في موضع من البارية قد هيأه لذلك كالجعبة ويصيح‏:‏ دانق أي هذا ثمن النشابة ‏.‏

فأنفذ الخراساني سهامه ثم حمل على العيار ليضربه بالسيف فأخرج العيار حجرًا من مخلاته فجعله في مقلاع ورماه فما أخطأ عينه ثم ثناه بآخر فكاد يصرعه عن فرسه فكرّ راجعًا وهو يقول‏:‏ ليس هؤلاء بإنس فحدَّث طاهرًا بهذا فضحك وأعفاه من القتال وقال في هذا بعض شعراء بغداد‏:‏ خَرَّجَتْ هذه الحروبُ رجالًا لا لقَحْطانِهَا ولا لنَزَارِ معشرًا في جواشِنِ الصُوفِ يغدو - ن إلى الحرْب كالأسود الضَّواري وعليهمْ مغافرُ الخوص تُجزي هم عن البيِض والتَراس البوارِي ليس يدرونَ ما الفرارُ إذا الأبْ طالُ عافوا من القَنا بالفرارِ واحدٌ منهمُ يَشُدُّ على أل فَينِ عُرْيانٌ مالَهُ من إزارِ ويقول الفتى إذ طَعن الطع نةَ‏:‏ خذها مِن الْفَتَى العيَّار كم شريف قد أخملَتهُ وكم قد رفَعتْ من مُقامر طَرّارِ ولم يزل طاهر يصاير محمدًا وجنده حتى مل أهل بغداد فاستأمر إلى طاهر خلق من أصحاب محمد وقواده فلما استأمن محمد بن عيسى صاحب شرطة محمد استأمن محمد ‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ منع طاهر الملاحين وغيرهم من إدخال شيء إلى بغداد إلا من كان في عسكره منهم ووضع الرصد عليهم بسبب ذلك ‏.‏

وكان السبب في فعله هذا‏:‏ أن أصحابه نيل منهم بالجراح فأمر بالهدم والإحراق فهدم دور من خالفه ما بين دجلة ودار الرقيق وباب الشام وباب الكوفة إلى الصراة وأرجاء أبي جعفر وربض حميد ونهر كرخايا والكناسة وجعل يحوي كل ناحية ويخندق عليها فلما رأى أنهم لا يحفلون بالقتل والهدم والحرق أمر بمنع التجار أن يجوزوا بشيء من الدقيق وغيره من المنافع فغلت الأسعار واشتد الحصار وفرح من خرج وتأسف من أقام ثم كانت بعد وقعات منها‏:‏ وقعة بالكناسة باشرها طاهر بنفسه قتل فيها خلق كثير من أصحاب محمد ومنها وقعة بدرب الحجارة كانت على أصحاب طاهر قتل فيها خلق كثير ومنها‏:‏ وقعة بباب الشماسية أسر فيها هرثمة وكان هرثمة ينزل نهر بين وعليه حائط وخندق وقد أعد المجانيق والعرادات وقد أنزل عبيد الله بن الوضاح الشماسية وكان يخرج أحيانًا فيقف بباب خراسان ساعة ثم ينصرف وكان حاتم بن الصقر من أصحاب محمد وكان قد واعد أصحابه العُراة العيارين أن يوافوا عبد الله بن الوضاح ليلًا فمضوا إليه مفاجأة وأوقعوا به وقعة أزالوه عن موضعه فانهزم وبلغ هرثمة الخبر فأقبل لنصرته فأسر هرثمة فضرب بعض أصحابه يد مَنْ أسره فقطعها فتخلص فانهزم ‏.‏

وبلغ خبره أهل عسكره فخرجوا هاربين نحو حلوان ثم قام بنصرة طاهر فرجع إلى مكانه وهرب عبد الله بن خازم بن خزيمة من بغداد إلى المدائن في السفن بعياله وولده فأقام بها ولم يحضر القتال ‏.‏

وقيل‏:‏ بل كاتبه طاهر وحذّره قبض ضياعه واستئصاله فحذره من الفتنة وسلم ‏.‏

وتضايق على محمد أمره ونفد ما كان عنده وطلب الناس الأرزاق فقال‏:‏ وددت أن اللّه قتل الفريقين جميعًا هؤلاء يريدون مالي وأولئك يريدون نفسي وضعف أمره وأيقن بالهلاك ‏.‏

وحج بالناس في هذه السنة العباس بن موسى بن عيسى بتوجيه طاهر إياه على الموسم بأمر المأمون بذلك وكان عامل مكة في هذه السنة‏:‏ داود بن عيسى ‏.‏

 ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

سمع شعبة والثوري وزهير بن معاوية وروى عنه‏:‏ أحمد بن حنبل وغيره وكان من الثقات العلماء العُباد الآمرين بالمعروف المدققين في طلب الحلال أخبرنا أبو منصور القزاز أخبرنا أبو بكر بن ثابت أخبرنا البرقاني قال‏:‏ قرأت على أبي حفص الزيات حدثكم أحمد بن الحسين الصوفي قال‏:‏ سمعت أبا حمدون المقرئ واسمه‏:‏ طيب بن إسماعيل يقول‏:‏ ذهبنا إلى المدائن إلى شعيب بن حرب كان قاعدًا على شط دجلة وكان قد بنى كوخًا وخبز له مُعلق وإنما كان جلدًا وعظمًا قال‏:‏ فقال‏:‏ أرى ها هنا بعد لحمًا والله لا علم في دورنا به حتى أدخل إلى القبر وأنا عظام تقعقع أريد السمن للدود والحيات قال‏:‏ فبلغ أحمد بن حنبل قوله فقال‏:‏ شعيب بن حرب حمل على نفسه في الورع ‏.‏

أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك أخبرنا رزق اللّه أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف أخبرنا ابن صوفان أخبرنا ابن أبي الدنيا أخبرنا إبراهيم بن عبد الملك قال‏:‏ جاء رجل إلى شعيب بن حرب وهو بمكة فقال‏:‏ ما جاء بك ‏.‏

قال‏:‏ جئت أؤنسك ‏.‏

قال‏:‏ جئت تؤنسني وأنا أعالج الوحدة منذ أربعين سنة ‏.‏

قال ابن أبي الدنيا‏:‏ وحدّثني الحسن بن الصباحِ قال‏:‏ سمعت شعيب بن حرب يقول‏:‏ لا تجلس إلا مع أحد رجلين‏:‏ رجل يعلمك خيرًا فتقبل منه أو رجل تعلمه خيرًا فيقبل منك والثالث اهرب منه

أخبرنا ابن ناصر أخبرنا عبد القادر بن محمد أخبرنا أبو بكر بن علي الخياط أخبرنا ابن أبي الفوارس أخبرنا أحمد بن جعفر بن سلم أخبرنا أحمد بن محمد بن عبد الخالق أخبرنا المروزي قال‏:‏ سمعت عبد الوهاب يقول‏:‏ كان ها هنا قوم خرجوا إلى المدائن إلى شعيب بن حرب فما رجعوا إلى دورهم ولقد أقام بعضهم لم يستقِ الماء وكان شعيب يقول لبعضهم الذي يستقي الماء‏:‏ لو رآك سفيان لقرت عينه ‏.‏

قال المصنف رحمه الله‏:‏ كان شعيب قد اعتزل الناس وأقام بالمدائن يتعبد ثم خرج إلى مكة فتوفي بها بعلة البطن في هذه السنة وقيل في سنة تسع وتسعين عبيد بن وهب بن مسلم أبو محمد مولى لقريش ولد في ذي القعدة سنة خمس وعشرين ومائة وطلب العلم وهو ابن سبع عشرة سنة ‏.‏

أخبرنا أبو القاسم أخبرنا حمد بن أحمد أخبرنا أبو نعيم الأصفهاني أخبرنا أبي أخبرنا إبراهيم بن محمد بن الحسن حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني قال‏:‏ دخل ابن وهب الحمام فسمع قارئًا يقرأ‏:‏ ‏{‏وإذ يتحاجّون في النار‏}‏ فسقط مغشيًا عليه فغسلت عنه النورة وهو لا يعقل ‏.‏

أخبرنا زاهر بن طاهر أنبأنا أحمد بن الحسين البيهقي أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد اللّه الحاكم قال‏:‏ سمعت أبا إسحاق المزكي يقول‏:‏ سمعت محمد بن المسيب يقول‏:‏ سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول‏:‏ كتب الخليفة إلى عبد الله بن وهب في قضاء مصر فجنن نفسه ولزم البيت فاطلع عليه رشدين بن سعد من السطح فقال‏:‏ يا أبا محمد ألا تخرج للناس فتحكم بينهم كما أمر الله ورسوله قد جننت نفسك ولزمت البيت ‏.‏

فال‏:‏ إني ها هنا انتهى عقلك ألم تعلم أن القضاة يحشرون يوم القيامة مع السلاطين ويحشر العلماء مع الأنبياء توفي عبد اللّه بمصر في شعبان هذه السنة عبد الرحمن بن مسهر بن عمر وقيل‏:‏ عمير أبو الهيثم الكوفي حدَّث عن هشام بن عروة وغيره وهو قاضي جَبُّل ‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال‏:‏ أخبرني الأزهري قال‏:‏ أخبرني ابن عروة وغيره أخبرنا عبيد اللّه بن عثمان بن يحيى أخبرنا الحسين الأصفهاني قال‏:‏ أخبرني جعفر بن قدامة قال‏:‏ حدّثني محمد بن يزيد الضرير قال‏:‏ حدّثني عبد الرحمن بن مسهر قال‏:‏ ولاني أبو يوسف القاضي القضاء بجَبُّل وبلغني أن الرشيد ينحدر إلى البصرة فسألت أهل جبُّل أن يثنوا عليَّ فوعدوني أن يفعلوا ذلك إذا انحدر فلما قرب منا سألتهم الحضور فلم يفعلوا وتفرقوا فلما آيسوني من أنفسهم سرحت لحيتي وخرجت له فوقفت فوافى وأبو يوسف معه في الحراقة فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين نعم القاضي قاضي جبل قد عدل فينا وفعل وصنع وجعلت أثني على نفسيِ ورآني أبو يوسف فطأطأ رأسه وضحك فمَال له الرشيد‏:‏ مم ضحكت فقال‏:‏ المُثني على القاضي هو القاضي ‏.‏

فضحك هارون حتى فحص برجليه وقال‏:‏ هذا شيخ سخيف سفلة فاعزله فعزلني ‏.‏

فلما رجع جعلت أختلف إليه وأسأله أن يوليني قضاء ناحية أخرى فلم يفعل ‏.‏

فحدثت الناس عن مجالد عن الشعبي أن كنية الدجال‏:‏ أبو يوسف وبلغه ذلك فقال‏:‏ هذه بتلك فحسبك وصر إلي حتى أوليك ناحية أخرى ففعل وأمسكت عنه قال يحيى‏:‏ عبد الرحمن بن مسهر ليس بشيء وقال النسائي‏:‏ هو متروك الحديث ‏.‏

عثمان بن سعيد أبو سعيد الملقب‏:‏ وَرْش روى عن نافع القراءة وهو من أعلام أصحابه توفي في هذه السنة ‏.‏

وكيع بن الجراح بن عدي بن فرس بن جمحة أبو سفيان الرؤاسي الكوفي وسمع إسماعيل بن أبي خالد وهشام بن عروة والأعمش وابن عون وابن جريج والأوزاعي وسفيان وخلقًا كثيرًا ‏.‏

وحدَث وهو ابن ثلاث وثلاثين فروى عنه ابن المبارك وقتيبة وأحمد ويحيى وأحضره الرشيد ليوليه القضاء فامتنع ‏.‏

أخبرنا أبو منصور القزاز أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت أخبرنا الجوهري أخبرنا علي بن محمد بن لؤلؤ حدثنا محمد بن سويد الزيات أخبرنا أبو يحيى الناقد أخبرنا محمد بن خلف التيمي قال‏:‏ سمعت وكيعًا يقول‏:‏ أتيت الأعمش فقلت‏:‏ حدّثني‏:‏ فقال لي‏:‏ ما اسمك قلت‏:‏ وكيع

فقال‏:‏ اسم نبيل وما أحسب إلا سيكون لك نبأ أين تنزل من الكوفة قلت‏:‏ في بني رؤاس ‏.‏

قال‏:‏ أين من منزل الجراح بن مليح قلت‏:‏ ذاك أبي وكان أبي على بيت المال ‏.‏

قال‏:‏ اذهب فجئني بعطائي وتعال حتى أحدثك بخمسة أحاديث ‏.‏

قال‏:‏ فجئت أبي فأخبرته فقال‏:‏ خذ نصف العطاء واذهب به فإذا حدثك بالخمسة فخذ النصف الآخر فاذهب به حتى تكون عشرة ‏.‏

قال‏:‏ فأتيته بنصف عطائه فأخذه فوضعه في كفه ثم سكت فقلت حدثني فقالت‏:‏ اكتب فأملى عليً حديثين ‏.‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ وعدتني خمسة ‏.‏

قال‏:‏ فأين الدراهم كلها أحسب أن أباك أمرك بهذا ولم يعلم أن الأعمش قد شهد الوقائع اذهب وجئ بتمامها كلها وتعال أحدثك خمسة أحاديث ‏.‏

قال‏:‏ فجئته فحدثني بخمسة ‏.‏

قال‏:‏ فكان إذا كان كل شهر جئته بعطائه فحدثني بخمسة أحاديث أخبرنا عبد الرحمن بن محمد أخبرنا أحمد بن علي أخبرنا الأزهري حدّثنا عبيد اللّه بن عثمان الزيات حدَثنا علي بن محمد المصري قال‏:‏ حدثني عبد الرحمن بن حاتم المراعي قال‏:‏ حدثني أسد بن عفير قال‏:‏ حدّثنيِ رجل من أهل هذا الشأن من أهل المروة والأدب قال‏:‏ جاء رجل إلى وكيع فقال له‏:‏ إني أمتُ إليك بحرمة ‏.‏

قال‏:‏ وما حرمتك قال‏:‏ كنت تكتَب من محبرتي في مجلس الأعمش ‏.‏

قال‏:‏ فوثب وكيع فأخرج له من منزله صرة فيها دنانير وقال‏:‏ أعذرني فإني ما أملك غيرها ‏.‏

حدَثنا عبد الرحمن بن محمد أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال‏:‏ أخبرني إبراهيم بن عمر البرمكي حدَّثنا عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان أخبرنا محمد بن أيوب بن المعافى قال‏:‏ سمعت إبراهيم الحربي يقول‏:‏ سمعت أحمد بن حنبل ذكر لِومًا وكيعًا فقال‏:‏ ما رأت عيني مثله قط يحفظ الحديث جيدًا ويذاكر بالفقه فيحسن مع ورع واجتهاد ولا يتكلم في أحد ‏.‏

أخبرنا أبو منصور بن خيرون أخبرنا إسماعيل بن مسعدة أخبرنا حمزة بن يوسف أخبرنا أبو أحمد بن عدي قال‏:‏ قال يحيى بن معين حدّثنا قتيبة حدَثنا وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مات لم يدفن حتى ربا بطنه وانتشرت خنصراه‏.‏

قال قتيبة‏:‏ حدث بهذا الحديث وكيع وهو بمكة وكانت سنة حج فيها الرشيد فقدموه إليه فدعا الرشيد سفيان بن عيينة وعبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد فأما عبد المجيد فقال‏:‏ يجب أن يقتل هذا فإنه لم يرو هذا إلا وفي قلبه غش للنبي صلى الله عليه وسلم ‏.‏

فسأل الرشيد سفيان بن عيينة فقال‏:‏ لا يجب عليه القتل رجل سمع حديثًا فرواه لا يجب عليه القتل إن المدينة شديدة الحر توفي النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين فنزل إلى قبره ليلة الأربعاء لأن القوم كانوا في صلاح أمة محمد صلى الله عليه وسلم واختلفت قريش الأنصار فمن ذلك تغيّر ‏.‏

قال قتيبة‏:‏ فكان وكيع إذا ذكر له فعل عبد المجيد قال‏:‏ ذلك رجلٌ جاهل سمع حديثًا لم يعرف وجهه فتكلم بما تكلم ‏.‏

توفي وكيع بفيد في هذه السنة وهو ابن ست وستين سنة ‏.‏

 ثم دخلت ثمان وتسعين ومائة

فمن الحوادث فيها‏:‏ استئمان خزيمة بن خازم إلى طاهر بن الحسين ومفارقته محمدًا

وسبب ذلك‏:‏ أن طاهرًا كتب إلى خزيمة فشاور مَنْ يثق به فقالوا‏:‏ نرى والله أن هذا الرجل أخذ بقفا صاحبنا عن قليل فاحتل لنفسك ولنا ‏.‏

فكتب إلى طاهر بطاعته وكتب طاهر بن محمد بن علي بن عيسى بن ماهان بمثل ذلك فلما كان ليلة الأربعاء لثمان بقين من المحرم وثب خزيمة ومحمد بن علي بن عيسى بن ماهان على جسر دجلة فقطعاه وركبا أعلامهما عليه وخلعا محمدًا ودعوا للمأمون وغدا طاهر يوم الخميس على المدينة الشرقية وأرباضها والكرخ وأسواقها وهدم قنطرتي الصراة العتيقة والحديثة واشتد عندهما القتال وباشر طاهر القتال بنفسه فهزم أصحاب محمد ودخل قسرًا وأمر مناديه فنادى‏:‏ الأمان لمن لزم منزله ‏.‏

ووضع بقصر الوضاح وسوق الكرخ والأطراف قوادًا وجندًا وقصدوا مدينة أبي جعفر فأحاط بها وبقصر زبيدة وقصر الخلد ورمى فخرج محمد بأمه وولده مما كان يصل إليه من حجارة المنجنيق إلى مدينة أبي جعفر وتفرق عنه عامة أصحابه وخصيانه وجواريه إلى السكك والطرق لا يلوي أحد منهم على أحد وتفرق الغوغاء والسفلة وأمر ببسطه ومجالسه أن تحرق فأحرقت ‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ قتل محمد بن هارون وذلك أنه لما تيقن محمد أنه لا عدة له للحصار وخاف أن يُظفر به وبأصحابه صار إليه حاتم بن الصقر ومحمد بن إبراهيم بن الأغلب الإفريقي وقواده فقالوا‏:‏ قد آلت حالك وحالنا إلى ما ترى وقد رأينا رأيًا نعرضه عليك فانظر فيه فإنا نرجو أن يكون صوابًا ‏.‏

قال‏:‏ ما هو

قالوا‏:‏ قد تفرق عنك الناس وأحاط بك عدوك من كل جانب وقد بقي من خيلك معك ألف فرس فنرى أن تختار مَنْ قد عرفناه بمحبتك من الأبناء مع ألف رجل ونخرج ليلًا من هذه الأبواب حتى نلحق بالجزيرة والشام فتفرض الفروض وتجبي الخراج وتصير في مملكة واسعة ويسارع إليك الناس ‏.‏

فقال‏:‏ نعم ما رأيتم واعتزم على ذلك ‏.‏

فخرج الخبر إلى طاهر فكتب إلى سليمان بن أبي جعفر وإلى محمد بن عيسى بن نهيك وإلى السندي بن شاهك‏:‏ والله لئن لم ترعوه عن هذا الرأي لا تركت لكم ضيعة إلا قبضتها ولا يكون لي ضيعة إلا أنفسكم ‏.‏

فدخلوا على محمد فقالوا‏:‏ قد بلغنا الذي عزمت عليه ولسنا نأمن الذين تخرج معهم أن يأخذوك أسيرًا ويأخذوا رأسك فيتقربوا بك ‏.‏

فأضرب عما كان عزم عليه ومال إلى طلب الأمان فلما اشتد الحصار عليه فارقه سليمان بن أبي جعفر وإبراهيم بن المهدي ومحمد بن عيسى بن نهيك ولحقوا جميعًا بعسكر المأمون وقال له السندي‏:‏ بادر بنا إلى هرثمة واخرج ليَلًا فغضب طاهر وأراد أن يخرج إليه ‏.‏

فقيل له يخرج إلى هرثمة لأنه يأنس به ويدفع إليك الخاتم والقضيب والبردة ‏.‏

فقيل لطاهر‏:‏ هذا مكر منه وإن فاغتاظ وكمن حول القصر كمينًا بالسلاح وذلك ليلة الأحد لخمس مضين من المحرم سنة ثمان وأربعين ومائة وذلك لخمس وعشرين من أيلول ‏.‏

فلما أراد الخروج استسقى ماءً فلم يوجد له فدعا بولديه فضمهما إليه وقبلهما وقال‏:‏ استودعكما الله ‏.‏

وجعل يمسح دموعه ولبس ثياب الخلافة وركب يريد هرثمة وبين يديه شمعة ‏.‏

فلما انتهى إلى دار الحرس قال لخاثمه‏:‏ اسقني من جباب الحرس ‏.‏

فناوله كوزًا فعافه لزهوكته فلم يشرب منه فلما أن سار في الحراقة خرج طاهر وأصحابه فرموا الخراقة بالسهام والحجارة فانكبت الحراقة فغرق محمد ومَنْ كان فيها فشق محمد ثيابه وسبح حتى عبر فصار إلى بستان موسى فعرفه محمد بن حميد الطاهري فصاح بأصحابه فنزلوا فأخذوه فبادر محمد الماء فأخذوا بساقيه ثم حمل على برذون وألقي عليه إزار من أزُر الجند غير مفتول وحمل إلى منزل إبراهيم بن جعفر البلخي وكان بباب الكوفة وأردف رجل خلفه ليلًا يسفط كما يُفعل بالأسير ‏.‏

وقيل إنه عرض على الذين أخذوه مائة حبة كل حبة قيمتها مائة ألف فأبوا أن يتركوه وجاء الخبر بذلك إلى طاهر بن الحسين فدعا مولى له يقال له‏:‏ قريش الدنداني فأمره بقتل محمد فلما انتصف الليل فتح الدار قوم من العجم بأيديهم السيوف مسللة فلما رآهم قام قائمًا وقال‏:‏ ‏{‏إن لله وإنا إليه راجعون‏}‏ ذهبت والله نفسي في سبيل الله فلما وصلوا إليه أحجموا عن الإقدام وجعل بعضهم يقول لبعض‏:‏ تقدم فأخذ محمد بيده ‏.‏

ساعة وجعل يقول‏:‏ ويحكم إني ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن هارون وأخو المأمون الله الله في دمي ‏.‏

فدخل عليه رجل يقال له‏:‏ حميرويه - غلام لقريش الدنداني - فضربه بالسيف ضربة وقعت على مقدم رأسه وضرب وجهه بالوسادة التي كانت في يده ودخل جماعة فنخسه واحد منهم بالسيف في خاصرته وركبوه فذبحوه ذبحًا من قفاه وأخذوا رأسه فمضوا به إلى طاهر وتركوا جثته فنصب طاهر الرأس على رمح على برج حائط البستان الذي يلي باب الأنبار وفتح باب الأنبار وتلى‏:‏ ‏{‏قل اللهم مالك الملك‏}‏‏.‏

وخرج من أهل بغداد من لا يحصى عدده ينظر إليه ثم بعث برأسه إلى المأمون مع الرداء والقضيب والبردة فأمر له بألف ألف دينار فأدخل ذو الرياسيتين الرأس بيده على ترس إلى المأمون فلما رآه سجد وأعطى طاهر بعد قتل محمد الناس كلهم الأمان وهدأ الناس ودخل طاهر المدينة يوم الجمعة فصلى بالناس وخطبهم وحض على الطاعة ولزوم الجماعة وانصرف إلى معسكره ‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ وثب الجند بعد مقتل محمد بخمسة أيام بطاهر وشهرو السلاح ونادوا‏:‏ يا منصور ‏.‏

فهرب منهم طاهر وتغيب أيامًا حتى أصلح أمرهم ‏.‏

وكان السبب أنه لم يكن عنده مال فضاق به الأمر فهرب وانتهب بعض متاعه مضى إلى عقرقوف وتهيأ لقتالهم بمن معه من القواد فأتوه واعتذروا وأحالوا على السفهاء والأحداث وسألوه الصفح عنهم فأمر لهم برزق أربعة أشهر وكان قد أمر حفظ أبواب المدينة وباب القصر على أم جعفر وموسى وعبد اللهّ ابني محمد ثم أمر بتحويل زبيدة وموسى وعبد اللهّ معها من قصر أبي جعفر إلى الخُلد فحُوّلوا ليلة جمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ربيع الأول ثم أمر بحمل موسى وعبد اللهّ إلى عمهما ‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ ورد كتاب المأمون بعد قتل محمد على طاهر وهرثمة بخلع القاسم بن هارون فأظهرا ذلك ووجها كتبهما به وقرئ الكتاب بخلعه يوم الجمعة لليلتين بقيتا من شهر ربيع الأوّل‏.‏

وفي هذه السنة بويم للمأمون البيعة العامة ‏.‏

 باب ذكر خلافة المأمون

واسمه‏:‏ عبد اللهّ بن هارون الرشيد وكان يكنى أبا العباس في أيام الرشيد وكان في خلافته تكَنَى بأبي جعفر تفاؤلًا بكنية المنصور والرشيد في طول العمر ‏.‏

ولد ليلة استخلف الرشيد في ربيع الأول سنة سبعين وكان أبيض أقنى أعين جميلًا طويل اللحية قد وخطه الشيب ضيّق الجبهة بخده خال أسود يعلوه صفرة ساقاه دون سائر جسده صفراوين كأنهما طليا بالزعفران وأمُّه أمة اسمها مراجل ماتَ بعد ولادته بقليل فسلمه الرشيد إلى سعيد الجوهري وكان من زمن صغره فطنًا ذكيًَا ‏.‏

أخبرنا أبو منصور القزاز قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب قال‏:‏ أخبرني الأزهري قال‏:‏ حدّثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة قال‏:‏ قال أبو محمد اليزيدي‏:‏ كنت أؤدب المأمون وهو في حجر سعيد الجوهري ‏.‏

قال‏:‏ فأتيته يومًا وهو في داخل فوجهت إليه بعض خدمه يعلمه بمكاني فأبطأ عليَّ ثم وجهت آخر فأبطأ علي فقلت لسعيد‏:‏ إن هذا الفتى ربما تشاغل بالبطالة وتأخر ‏.‏

فقال‏:‏ أجل ومع هذا إذا فارقك عزم على خدمه ولقوا منه أذى شديدًا فقومه بالأدب فلما خرج أمرت بحمله فضربته سبع درر ‏.‏

قال‏:‏ فإنه ليدلك عينه من البكاء إذ قيل‏:‏ هذا جعفر بن يحيىِ قد أقبل فأخذ منديلًا فمسح عينيه وجمع ثيابه وقام إلى فراشه فقعد عليه متربعًا وقال‏:‏ ليدخل ‏.‏

فدخل فقمت إلى المجلس وخفت أن يشكوني إليه فألقى منه ما أكره فأقبل عليه بوجهه وحدثه حتى أضحكه وضحك إليه فلما هَم بالحركة دعى بدابته وأمر غلمانه فسعوا بين يديه ثم سأل عني فجئت فقال‏:‏ خذ علي ما بقي من جزئي فقلت‏:‏ أيها الأمير أطال الله بقاءك لقد خفت أن تشكوني إلى جعفر بن يحيى ولو فعلت ذلك لتنكر لي ‏.‏

فقال‏:‏ أتراني يا أبا محمد كنت أطلع الرشيد على هذا فكيف بجعفر بن يحيى حتى أطلعه أني أحتاج إلى أدب أدَبْ يغفر الله لك بُعد ظنك خذ في أمرك فقد خطر ببالك ما لا تراه أبدًا ولو عدت كل يوم مائة مرة ‏.‏

وروى الطالقاني قال‏:‏ قال الرشيد لأبي معاوية الضرير وهشيم‏:‏ إني أسمع من ابني هذا - يعني المأمون - كلامًا لست أدري أمن تلقين القيم عليه هو أم من قريحة فادخلا إليه فناظراه وأسمعا منه وأخبراني بما تقفان عليه فدخلا عليه وهو في أثواب صباه فقالا له‏:‏ إن أمير المؤمنين أمرنا بالدخول عليك ومناظرتك فأي العلوم أحب إليك ‏.‏

قال‏:‏ أمتعها لي ‏.‏

قالا‏:‏ وما أمتعها لك ‏.‏

قال‏:‏ أثبتها عن ثقة وأقربها من أفهام مستمعيها ‏.‏

فقال له هشيم‏:‏ جئناك لنعلمك فتعلمنا ثم أخبرا الرشيد فقالا‏:‏ إن هذا شيء أوله لحقيق أن يرجى آخره ثم أعتق عنه مائة عبد وأمة وألزمها خدمته وبلغنا أن أم جعفر عاتبت الرشيد على تقريبه المأمون دون ابنها محمد فدعا خادمًا بحضرتها وقال له‏:‏ وجه إلى عبد الله ومحمد خادمين حصيفين يقولان لكل واحد منهما على الخلوة‏:‏ ما يفعل به إذا أفضت الخلافة إليه ‏.‏

فأما محمد فقال للخادم الذي مضى إليه‏:‏ أقطعك وأوليك وأبلغ لك ‏.‏

وأما المأمون فرمى الخادم بالدواة وقال‏:‏ يا ابن اللخناء تسلني ما أفعل بك بموت أمير المؤمنين بل نكون جميعًا فداء له فرجع بالخبر كل منهما ‏.‏

فقال لأم جعفر‏:‏ كيف ترين ما أقدم ابنك إلا متابعة لرأيك وتركًا للجزع وقد كان المأمون يعنى بالعلم قبل ولايته كثيرًا حتى جعل لنفسه مجلس نظر ‏.‏

أخبرنا ابن ناصر قال أخبرنا أبو الحسين بن أيوب قال‏:‏ أخبرنا أبو علي بن شاذان قال‏:‏ أخبرنا أبو علي الطوماري قال‏:‏ أخبرنا أبو الحسين بن الفهم قال‏:‏ حدًثنا يحيى بن أكثم قال‏:‏ كان المأمون قبل تقلده الخلافة يجلس للنظر فدخل يهودي حسن الوجه طيب الرائحة حسن الثوب فتكلم فأحسن الكلام فلما تقوض المجلس دعاه المأمون فقال له‏:‏ إسرائيلي قال‏:‏ نعم ‏.‏

قال‏:‏ أسلم حتى أفعل لك وأصنع ‏.‏

فقال‏:‏ ديني ودين آبائي فلا تكشفني فتركه فلما كان بعد سنة جاءنا وهو مسلم فتكلم في الفقه فأحسن الكلام فلما تقوض المجلس دعاه المأمون فقال‏:‏ ألست صاحبنا قال‏:‏ نعم ‏.‏

قال‏:‏ أي شيء دعاك إلى الإسلام وقد كنت عرضته عليك فأبيت ‏.‏

قال‏:‏ إِني أحسن الخط فمضيت فكتبت ثلاث نسخ من التوراة فزدت فيها ونقصت وأدخلتها الكنيسة فبعتها فاشتُريت ‏.‏

قال‏:‏ وكتبت ثلاث نسخ من الإنجيل فزدت فيها ونقصت فأدخلتها إلى البيعة فاشتريت مني ‏.‏

قال‏:‏ وعمدت إلى القرآن فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت وأدخلتها إلى الوراقين فكلما تصفحوها قرأوا الزيادة والنقصان ورموا بها فعلمت أن هذا قال يحيى بن أكثم‏:‏ فحججت فرأيت سفيان بن عيينة فحدثته بهذا الحديث فقال لي‏:‏ مصداق هذا في كتاب الله عز وجل ‏.‏

قلت‏:‏ في أي موضع قال‏:‏ في قوله عز وجل في التوراة والإنجيل‏:‏ ‏{‏بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء‏}‏ فجعل حفظه إليهم فضاع ‏.‏

وقال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون‏}‏ فحفظه الله تعالى علينا فلم يضع ‏.‏

أخبرنا القزاز قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي قال‏:‏ أخبرنا الحصين بن أبي بكر قال‏:‏ أخبرنا محمد بن عبد الله الشافعي قال‏:‏ حدثنا عمر بن حفص السدوسي قال‏:‏ حدَّثنا محمد بن يزيد قال‏:‏ استخلف المأمون في المحرم سنة ثمان وتسعين أو مائة وقد سُلّم عليه بالخلافة قبل ذلك ببلاد خُراسان نحو سنتين وخلع أهل خراسان وغيرها محمد بن هارون ‏.‏

 فصل

ولما استوثق الأمر للمأمون ولى الحسن بن سهل كل ما افتتحه طاهر بن الحسين من كور الجبال وفارس والأهواز والكوفة والبصرة والحجاز واليمن وكتب المأمون إلى طاهر بتسليم جميع ما في يده من الأعمال في البلدان إلى خلفاء الحسن بن سهل وولاه الموصل والجزيرة والشام والمغرب فقدم علي بن سعيد الوراق خليفة الحسن بن سهل على خراجها فدافع طاهر عليًا بتسليم‏.‏

 ذكر طرف من أخبار المأمون وسيرته

كان المأمون يحفظ القرآن وقد سمع الحديث من مالك بن أنس وحماد بن زيد وهشيم وغيرهم وكان له حظ من علوم كثيرة وأسند الحديث ‏.‏

أخبرنا أبو منصور القزاز قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال‏:‏ أخبرني الخلال قال‏:‏ حدَثنا عبد الله بن أحمد بن يعقوب قال‏:‏ حدَثنا أحمد بن عبد الله الوكيل قال‏:‏ حدًثنا القاسم بن محمد بن عباد قال‏:‏ سمعت أبي يقول‏:‏ لم يحفظ القرآن من الخلفاء إلا عثمان والمأمون وكان المأمون يقرأ القرآن كثيرًا فروى عنه نحو الرئاستين أنه ختم في رمضان ثلاثة وثلاثين ختمة وكان يحفظ الحديثَ ويرويه ‏.‏

أنبأنا محمد بن ناصر قال‏:‏ أنبأنا عبد اللّه بن أحمد السمرقندي قال‏:‏ أنبأنا عبد العزيز بن أحمد الكتاني قال‏:‏ أنبأنا أبو حامد محمد بن عبد الله النيسابوري قال‏:‏ حدَّثنا أبو الحسن السليطي قال‏:‏ حدثنا أبو العباس عيسى بن محمد بن عيسى المروزي قال‏:‏ حدَثنا محمد بن قدامة السلمي صاحب ابن شميل حدَّثنا أبو حذيفة البخاري قال‏:‏ سمعت المأمون أمير المؤمنين يحدًث عن أبيه عن جده عن ابن عباس‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ مولى القوم منهم ‏"‏ وقال مرة‏:‏ ‏"‏ مولى القوم من أنفسهم ‏"‏‏.‏

قال محمد بن قدامة‏:‏ بلغ المأمون أن أبا حذيفة حدث بهذا الحديث عنه فأمر له بعشرة آلاف درهم ‏.‏

أنبأنا زاهر بن طاهر قال‏:‏ أنبأنا أحمد بن الحسين البيهقي قال‏:‏ أخبرنا الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله قال‏:‏ حدثني أبو علي منصور بن عبد الله بن خالد المروزي قال‏:‏ حدًثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن حمدوية قال‏:‏ حدثنا إبراهيم بن يونس بن مروان الضبي قال‏:‏ حدثني نصر بن منصور الطفاوي قال‏:‏ حدثنا أبو عمر الحوضي قال‏:‏ لما دخل المأمون مصر قام إليه فرج الأسود مولاه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين الحمد لله الذي كفاك أمر عدوك ودان لك العراقان والشامان ومصر وخراسان وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم والعالم به ‏.‏

فقال‏:‏ ويحك يا فرج قد بقيت لي خلة ‏.‏

قلت‏:‏ وما هي يا أمير المؤمنين قال‏:‏ جلوسي في عسكر ومستمل يجيء فيقول‏:‏ من ذكرت رضي الله عنك فأقول‏:‏ حدَثنا الحمادان‏:‏ حماد بن سلمة وحماد بن زيد قالا‏:‏ حدَثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من عال ابنتين أو أختين أو ثلاثة حتى يمتن أو يموت عنهن كان معي في الجنة كهاتين ‏"‏ فأومأ حماد بن سلمة بالوسطى والإبهام ‏.‏

قال الحاكم‏:‏ وسمعت أبا الحسين محمد بن محمد بن يعقوب الحافظ يقول‏:‏ سمعت أبا العباس محمد بن إسحاق يقول‏:‏ سمعت محمد بن سهل يقول‏:‏ كنت بالمصيصة وبها المأمون أمير المؤمنين فأذن يومًا للناس فقام إليه شاب وبيده محبرة فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين صاحب حديث منقطع به فقال له المأمون‏:‏ أي شيء تحفظ من باب كذا فلم يذكر الفتى شيئًا فما زال المأمون يقول‏:‏ حدَّثنا هشيم وحدًثنا أبو الأحوص وحدثنا وكيع حتى ذكر الباب ثم قال‏:‏ وإيش تحفظ في باب كذا فلم يذكر الفتى شيئًا فما زال المأمون يقول‏:‏ حدَّثنا حجاج بن محمد وحدَثنا فلان وفلان حتى ذكر الباب ثم التفت إلى الفضل فقال‏:‏ أحدهم يطلب الحديث ثلاثة أيام ثم يقول أنا من أصحاب الحديث أعطوه ثلاثة آلاف درهم ‏.‏

أخبرنا هبة الله بن أحمد الحرسي قال‏:‏ أخبرنا إبراهيم عن عمر البرمكي قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أحمد بن خلف قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي الطبري قال‏:‏ حدثنا محمد بن داود قال‏:‏ حدثنا محمد بن عون قال‏:‏ سمعت ابن عيينة يقول‏:‏ جمع أمير المؤمنين العلماء وجلس للناس فجاءت امرأة فقالت‏:‏ يا أمير المؤمنين مات أخي وخلف ستمائة دينار أعطوني دينارًا واحدًا وقالوا‏:‏ هذا نصيبك ‏.‏

قال‏:‏ فحسب المأمون ثم قال‏:‏ هكذا نصيبك رحمك الله فقالت العلماء‏:‏ كيف علمت يا أمير المؤمنين فقال لها‏:‏ هذا الرجل خلف أربع بنات ‏.‏

قالت‏:‏ نعم ‏.‏

قال‏:‏ فلهما الثلثان أربعمائة وخلف والدة فلها السدس مائة وخلف زوجة فلها الثمن خمسة وسبعون دينارًا بالله لك اثنا عشر أخًا ‏.‏

قالت‏:‏ نعم ‏.‏

قال‏:‏ أصابهم ديناران ديناران وأصابك دينار أخبرنا ابن ناصر قال‏:‏ أخبرنا محفوظ بن أحمد الفقيه قال‏:‏ أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري قال‏:‏ حدَّثنا المعافى بن زكريا قال‏:‏ أخبرنا محمد بن يحيى الصولي قال‏:‏ حدَثنا الحسين بن يحيى الكاتب قال‏:‏ حدُّثنيِ مَنْ سمع قحْطَبة بن حميد بن قحطبة يقول‏:‏ حضرت المأمون يناظر محمد بن القاسم النوشجاني يقول في شيء ومحمد يفضي له ويصدقه فقال له المأمون‏:‏ أراك تنقاد لي إلى ما ترى أنه يسرني قبل وجوب الحجة عليك ولو شئت أن أقيس الأمور بفضل بيان وطول لسان وأبهة الخلافة وسطوة الرئاسة لصُدقت وإن كنت كاذبًا وصُوبت وإن كنت مخطئًَا وعُدلت وإن كنت جائرًا ولكن لا أرضى إلا بإزالة الشبهة وغلبة الحجة وإن شر الملوك عقلًا وأسخفهم رأيًا من رضي بقولهم‏:‏ صدق الأمير ‏.‏

قال‏:‏ أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال‏:‏ أخبرنا القاضي أبو العلا الواسطي قال‏:‏ حدثنا علي بن عمر الحافظ قال‏:‏ حدثنا الكوكبي قال‏:‏ حدَّثنا أبو عكرمة الضبي قال‏:‏ حدثني ابن الأعرابي قال‏:‏ بعث إلي المأمون فصرت إليه وهو في بستان يحيى بن أكثم فرأيتهما موليين فجلست فلما أقبلا قمت فسلمت عليه بالخلافة فسمعته يقول ليحيى‏:‏ يا أبا محمد ما أحسن أدبه رآنا موليين فجلس ثم رآنا مقبلين فقام ثم ردّ السلام وقال‏:‏ يا محمد أخبرني عن أحسن ما قيل في الشراب فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين قوله‏:‏ تريك القذى من دون وهى دونه إذا ذاقها مَنْ ذاقها يتمنطق فقال‏:‏ أشعر منه الذي يقول‏:‏ - يعني أبا نواس - فتمشَّتْ في مفاصِلِهم كتمشّي البُرْءِ في السقم فعلت في البيت إذ مزجت مثل فعل الصبح في الظلم واهتدى ساري الظلام بها كاهتداءِ السَّفْر بالعلم فقلت‏:‏ فائدة يا أمير المؤمنين ‏.‏

فقال‏:‏ أخبرني عن قول هند بنت عتبة‏:‏ نحن بنات طارق نمشي على النمارق مَنْ طارق هذا قال‏:‏ فنظرت في نسبها فلم أجده ‏.‏

فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين ما أعرف في نسبها‏!‏ فقال‏:‏ إنما أرادت النجم فانتسبت إليه لحسنها من قول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏والسماء والطارق‏}‏

فقلتَ‏:‏ فائدتان يا أمير المؤمنين قال‏:‏ أنا بؤبؤ هذا الأمر أو أنت بؤبؤه ‏.‏

ثم دفع إليَّ بعنبرة وكان يقلبها في يده فبعتها بخمسة آلاف درهم ‏.‏

حدَثنا أبو منصور القزاز قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي قال‏:‏ أخبرني الأزهري قال‏:‏ حدَّثنا محمد بن جامع قال‏:‏ حدَثنا أبو عمر الزاهد قال‏:‏ حدَّثنا المبرد قال‏:‏ حدَثني عمارة بن عقيل قال‏:‏ قال لي ابن أبي حفصة الشاعر‏:‏ أعلمت أن أمير المؤمنين لا يبصر الشعر‏!‏ فقلت‏:‏ ومَنْ يكون أفرس مَنه‏!‏ والله إنا لننشد أول البيت فيسبق إلى آخره من غير أن يكون سمعه ‏.‏

قال‏:‏ إني أنشدته شيئًا أجدت فيه فلم أره تحرك له فأسمعه‏:‏ أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلًا بالدين والناس بالدنيا مشاغيل فقلت‏:‏ ما زدته على أن جعلته عجوزًا في محرابها في يدها سبحة فمن يقوم بأمر الدنيا إذا كان مشغولًا عنها وهو المطوق بها ألا قلت كما قال جرير لعمر بن عبد العزيز‏:‏ فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله أخبرنا أبو منصور القزاز قال‏:‏ حدَثنا أحمد بن علي قال‏:‏ أخبرنا يحيى بن الحسن بن المنذر قال‏:‏ حدَثنا إسماعيل بن سعيد المعدل قال‏:‏ حدَثنا أبو بكر بن دريد قال‏:‏ حدَثنا الحسن بن خضر قال‏:‏ سمعت ابن أبي دؤاد يقول‏:‏ أدخل رجل من الخوارج على المأمون فقال‏:‏ ما حملك على خلافنا قال‏:‏ آية في كتاب اللّه عز وجل ‏.‏

قال‏:‏ وما هي قال‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون‏}‏ قال له المأمون‏:‏ ألك علم بأنها منزلة قال‏:‏ نعم ‏.‏

قال‏:‏ وما دليلك قال‏:‏ إجماع الأمة ‏.‏

قال‏:‏ فكما رضيت بإجماعهم في التنزيل فارضَ بإجماعهم في التأويل ‏.‏

قال‏:‏ أخبرنا عبد الرحمن القزاز قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي قال‏:‏ أخبرني الحسن بن محمد الخلال قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن محمد بن عمران قال‏:‏ حدَّثنا محمد بن الحسن بن محمد الموصلي قال‏:‏ حدَثنا عبد الله بن محمود المروزي قال‏:‏ سمعت يحيى بني أكثم يقول‏:‏ ما رأيت أكمل آلة من المأمون ‏.‏

وجعل يحدث بأشياء استحسنها من كان في مجلسه ‏.‏

ثم قال‏:‏ كنت عنده ليلة أذاكره وأحدثه ثم نام وانتبه وقال‏:‏ يا يحيى انظر أيش عند جلي فنظرت فلم أر شيئًَا ‏.‏

فقال‏:‏ شمعة فتبادر الفراشون ‏.‏

فقال انظروا فنظروا فإذا تحت فراشه حية بطوله فقتلوها فقلت‏:‏ قد انضاف إلى كمال أمير المؤمنين علم الغيب ‏.‏

فقال‏:‏ معاذ الله ولكن هتف بي هاتف الساعة وأنا نائم‏:‏ يا راقد الليل انتبه إن الخطوب لها سرى ثقة الفتى بزمانه ثقة محللة العرى فانتبهت فعلمت أن قد حدث أمر إما قريب وإما بعيد ‏.‏

فتأملت ما قرب فكان ما رأيت ‏.‏

أنبأنا محمد بن ناصر الحافظ قال‏:‏ أنبأنا أبو علي الحسن بن أحمد الفقيه قال‏:‏ أخبرنا ابن دودان قال‏:‏ أخبرنا المرزباني قال‏:‏ أخبرنا ابن دريد عن أبي العيناء قال‏:‏ قصد أعرابي المأمون فوقف على بابه سنة لا يصل إليه فصاح الأعرابي يومًا‏:‏ نصيحة نصيحة ‏.‏

قال‏:‏ فأدخل على المأمون فقال له‏:‏ يا أعرابي ما نصيحتك قال‏:‏ يا أمير المؤمنين رأيت البارحة رؤيا وقد أحببت أن إني رأُيتك في منامي سيدي يا ابن الإمام على الجواد السابق وكسوتني حللًا طرائف حسنها يزهو لديَ مع الكميت الفائق فقال المأمون‏:‏ ادفعوا إلى الأعرابي خلعة وفرسًا كميتًا بسرجه ولجامه‏.‏

فلما دفع إليه قال‏:‏ يا أمير المؤمنين‏:‏ وأجزتني بخريطة مملوءة ذهبًَا وأخرى باللجين الفائق فقال المأمون‏:‏ يدفع إليه ألف دينار وألف درهم فقبض ذلك وأنشأ يقول‏:‏ وأجزتني بخريدة روميةٍ حسناء تشفع بالغلام الفائق فقال المأمون‏:‏ يدفع إليه ذلك ثم قال‏:‏ يا أعرابي إياك أن ترى مثل هذه فربما لم تجد مَنْ يفسرها لك ‏.‏

أنبأنا محمد بن عبد الباقي البزار قال‏:‏ أنبأنا أبو القاسم التنوخي قال‏:‏ حدَثنا أبو بكر أحمد بن عبد الله الدوري قال‏:‏ حدّثَنَا أبو جعفر محمد بن حمزة بن أحمد الهاشمي قال‏:‏ حدَّثني محمد بن أبي جمعة النحاس عن عمر بن أبي سليمان بن عبد اللّه بن علي بن عبد الله بن العباس قال‏:‏ كنت يومًا بين يدي المأمون فجعل لا يمر عليه غلام من غلمانه إلا أعتقه وعلى رأسه غلام نظيف نظيف الثياب وكنت أحب أن يعتقه فيمن يعتق فلما تنحى الغلام قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين رأيتك لا يمر أحد من غلمانك إلا أعتقته وعلى رأسك غلام من صفته وحاله وكنت أحب أن تعتقه ‏.‏

فقال‏:‏ حدثني أبي عن آبائه يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ طينة المُعتَق من طينة المُعتِق ‏"‏ والذي رأيته على رأسي حجام فكرهت أن يكون من طينتنا حجام ‏.‏

أخبرنا ابن ناصر قال‏:‏ أخبرنا ابن المبارك عبد الجبار قال‏:‏ أخبرنا الجوهري قال‏:‏ أخبرنا ابن حيوية قال‏:‏ حدَثنا المقدمي عن الحارث بن محمد قال‏:‏ أخبرني بعض أصحابنا قال‏:‏ بكّر أحمد بن أبي خالد يقرأ على المأمون قصصًا فجاع فمرت به قصة فيها فلان بن فلان اليزيدي فقرأ‏:‏ الثريدي ‏.‏

فقال المأمون‏:‏ يا غلام صحفة مملوءة ثريدًا لأبي العباس فإنه أصبح جائعًا فاستحيى وقال‏:‏ ما أنا بجائع ولكن صاحب القصة أحمق نقط على الياء ثلاث نقط ‏.‏

فقال‏:‏ ما أنفع جمعه لك فأحضرت الصحفة مملوءة ثريدًا وعراقًا وودكًا فخجل أحمد فقال له المأمون‏:‏ بحياتي لما ملت إليها فأكلت فعدل فأكل حتى اكتفى وغسل يده وعاود القراءة ومرت قصة فلان بن فلان الحمصي فقرأ‏:‏ الخبيصي فقال المأمون‏:‏ يا غلام جام مملوءٌ خبيصًا لأبي العباس فإن طعامه كان مبتورًا فاستحيى وقال‏:‏ يا سيدي صاحب القصة أحمق فتح الميم فصارت سنتين ‏.‏

فقال‏:‏ لولا حمقه وحمق صاحبه مت اليوم جوعًا فأتي بجام مملوء خبيصًا فخجل فقال المأمون‏:‏ بحياتي إلا ملت نحوه فأكلت ‏.‏

فأكل وغسل يده وعاود القراءة فما أسقط حرفًا حتى انقضى المجلس ‏.‏

وقال محمد بن الجهم‏:‏ دعاني المأمون فقال‏:‏ أنشدني بيت مدح نادر ‏.‏

فأنشدته‏:‏ يجود بالنفس إذ ضن البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجُودِ فقال‏:‏ قد وليتك همذان فأنشدني بيت هجاء نادر فأنشدته‏:‏ قبحت مناظره فحين خبرتْه حسنت مناظره لقبح المخبر فقال‏:‏ قد وليتك الدينور فأنشدني بيت مرثية نادر فأنشدته‏:‏ أرادوا ليخفوا قبره عن عدوّه فطيب تراب القبر دل على القبر فقال‏:‏ قد وليتك نهاوند فأنشدني بيت غزل ‏.‏

فأنشدته‏:‏ حُب مُجد وحبيب يلعب والقلب ما بينهما يذهب ومن كلام المأمون‏:‏ أخبرنا محمد بن ناصر قال‏:‏ أخبرنا أبو المعالي أحمد بن محمد البخاري قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال‏:‏ أخبرنا أبو الحسن بن زرقويه قال‏:‏ أخبرنا أبو جعفر عبد الله بن إسماعيل بن توتة قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر محمد بن خلف قال‏:‏ حدَثنا أحمد بن زهير قال‏:‏ حدَثنا علي بن محمد القرشي قال‏:‏ حدَثني ابن هشام قال‏:‏ قال لي المأمون‏:‏ يا علي الملوك تحتمل لأصحابها كل شيء خلا ثلاث خصال ‏.‏

قلت‏:‏ وما هن يا أمير المؤمنين قال‏:‏ القدح في الملك وإفشاء السر والتعرض للحرمة ‏.‏

وبلغنا أن المأمون جمع ولده يومًا فقال‏:‏ يا بني ليعلم الكبير منكم إنما عظم قدره بصغار عظموه وقويت قوته بضعاف أطاعوه وشرفت منزلته بعوام اتضعوا له فلا يدعوَنًه تفخيم المفخم منهم إياه إلى تصغيره وتعزيز أمره إلى تذليله ولا تستأثرُنَ بعائده ورفق دونه ولا يولعن بتسميته عمدًا كما سمتَ الأعاجم وليًا وأخًا فإن الشيء الذي قوامه من أجزاء خسيسة ومعانٍ مذمومة فهو أيضًا خسيس مذموم وكل أمر من أولئك جزء من عدده وعماد من عماد أمره فإذا انحلت أجزاؤه وزالت دعائمه مال العماد وتهدم الكل وقد قيل إن مَنْ ملك أحرارًا كان أشرف ممن ملك عبيدًا مستكرهين يا بني ارجعوا فيما اشتبه عليكم من التدبير إلى آراء الحَزَمَة المجرّبيِن فإنهم مرآتكم يرونكم ما لا ترون قد صحبوا الدهور وكفوكم الأمور بالتجارب وقد قيل‏:‏ إن مَنْ جرعك مُر التبري أشفق عليك ممن أوجرك حلق النقم ومَنْ خوفك لتأمن أبر ممن أمنك لتخاف‏.‏

وقال‏:‏ الإخوان ثلاث طبقات فأخ كالغذاء الذي تحتاج إليه في كل يوم وفي كل وقت وهو الأخ العاقل الأديب وأجْ كالدواء تحتاج إليه عند الداء وهو الأخ الأريب الذي يصادق المودة وأخ كالداء الذي لا يحتاج إليه وهو الأحمق ‏.‏

وكان المأمون يقول‏:‏ أعظم الناس سلطانًا مَنْ تسلط على نفسه فوليها بمحكم التدبير وملك هواه فحمله على محاسن الأمور وأشرب معرفة الحق فانقاد للواجب فوقف عند الشبهة حتى استوضح مقر الصواب فتوخاه ورزق عظيم الصبر فهان عليه هجوم النوائب تأميلًا لما بعدها من عواقب الرغائب وأعطي فضيلة التثبت فحبس عزب لسانه ومما ينبغي الاحتياط فيه اختيار الكفاة من الأعوان وإنزالهم منازلهم والانتصار بهم على ما يطيقونه ‏.‏

وأنشد‏:‏ من كان راعيه دينًا في حُلوبته فهو الذي نفسه في أمره ظلما ترجو كفايته والغدر عادته ومن ولايته يستجني الندما وقيل للمأمون‏:‏ أي المجالس أحسن قال‏:‏ ما نظر فيه إلى الناس ‏.‏

وبعث المأمون رجلًا ليسبق الحاج فجاء بعد جماعة وكتب إلى المأمون رقعة ليسأله فيها شيئًَا وكتب عليها‏:‏ سابق الحاج ‏.‏

فنقط المأمون تحت الباء نقطة أخرى وردها إليه ‏.‏

ورفع رجل صوته في مجلسه اسمه عبد الصمد فقال‏:‏ لا ترفعن الصوت يا عبد الصمد إن الصواب في الأسَد الأشَد‏.‏

أخبرنا زاهر بن طاهر قال‏:‏ أنبأنا أبو عثمان الصابوني وأبو بكر البيهقي قالا‏:‏ أنبأنا أبو عبد الله الحاكم قال‏:‏ حدّثني عبيد الله بن محمد بن عبد الرحمن الضبي قال‏:‏ حدَّثنا الحسن بن محمد الكاتب قال‏:‏ ذكر بشر بن الوليد القاضي المأمون فقال‏:‏ كان والله الملك حقًا ما رأيت خليفة كان الكذب عليه أشد منه على المأمون وكان يحتمل كل آفة تكون في الإنسان ولا يحتمل الكذب ‏.‏

قال لي يومًا‏:‏ صف لي أبا يوسف القاضي فإني لم أره ولم استكثر منه فوصفته له فاستحسن صفته وقال‏:‏ وددت أن مثل هذا يحضرنا فنتجمل به ثم قال‏:‏ ما شيء من الخلافة إلا وأنا أحسن أن أدبره وأبلغ منه حيث أريد وأقوى عليه إلا أمر أصحابك - يعني‏:‏ القضاة - فواللّه لقد اجتهدت وما ظنك بشيء يتحرج منه علي بن هشام ويتوقى سوء عاقبته ويتكالب عليه الفقهاء وأهل التصنع والرياء ‏.‏

فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين والله ما أدري ما أقصد فأجيب بحبسه ‏.‏

فقال‏:‏ لكني أدريه ولا والله ما تجيبني فيه بجواب مقنع أبدًا ثم ابتدأ فقال‏:‏ ولينا رجلًا - أشرت به علينا - قضاء الأبلة وأجرينا عليه ألف درهم ولا له ضيعة ولا عقار ولا مال فرجع صاحب الخبر بالناحية أن نفقته في الشهر أربعة آلاف درهم فمن أين هذه الثلاثة آلاف درهم‏!‏ وولينا رجلًا - أشار به محمد بن سماعة - دمشق وأجرينا عليه ألفي درهم في الشهر فأقام بها أربعة عشر شهرًا ووجهنا مَنْ يتتبع أمواله ويرجع إلينا بخبره فصح عنه أنه يملك قيمة ثلاثة عشر ألف دينار من دابة وبغل وخادم وجارية وغير ذلك ‏.‏

وولينا رجلًا - أشار به غيركما - نهاوند فأقام بعد عشرين شهرًا من دخول يده في العمل سبعين بحينا وعشرين بحينا وفي منزله أربعة خدم خصيان قيمتهم ألف وخمسمائة في دينار وذلك سوى نتاج فكر اتخذه هات ما عندك من الجواب ‏.‏

قلت‏:‏ والله يا أمير المؤمنين ما عندي جواب ‏.‏

فقال‏:‏ ألم أعلمك أنه لا جواب عندك‏!‏ وأكثر من هذا أنه ترغَّب لي علي بن هشام في رجل أوليته القضاء فأعلمني أنه وجده فسرني والله وسُري عني ورجوت أن يكون بحيث أحب فأمرته بإحضاره فغدا عليً فسألته عن الرجل فذكر أنه لم يجده على الصفة التي يحب فسألته عن السبب في ذلك بعد وصفه الأول فوصف أن الذي وصفه لي علي بن مقاتل وأنه كان عنده من أهل العفاف والستر فانصرف علي ولم يحضره ووجه إليه وهو لا يشك أنه يظهر كراهة لما أردناه عليه ويستعفي تصنعًا فخبره بما أردناه له فوثب إلى رأسه فقبَّله فقضى أنه لا خير عنده لأنه لو كان من أهل الخير لعِّدَ الذي دعا إليه إحدى المصائب والرزايا فقلت له‏:‏ جزاك الله عن إمامك ونفسك خير ما جزى امرأ عن إمامه ونفسه ودينه ‏.‏

قال بشر‏:‏ فبهت ولم أجر بكلمة فقال لي‏:‏ ولكن إذا أردت العفيف النظيف التقي النقي الطاهر الزكي - يعني الحسين - وهو بحالته التي فارقنا عليها والله ما غيَّر ولا بدَل أما يحيى بن أكثم فما ندري ما عيبه‏!‏ أما ظاهره فأعف خلق الله ‏.‏

فقلت‏:‏ والله يا أمير المؤمنين ما لك في الخلفاء شبيه إلا عمر بن الخطاب فإنه كان يفحص عن عماله وعن دقيق أسرار حكامه فحصًا شافيًَا وكان لا يخفى عليه ما يفيده كل امرئ منهم وما ينفق وكل من نأى عنه كمن دنا منه في بحثه وتنقيره ‏.‏

فقال‏:‏ يا بشر إن أهمّ الأمور كلها إليً أمور الحكام إذ كنا قد ألزمناهم النظر في الدماء والأموال والفروج والأحكام ووددت أن يتأتى مائة قاض مرضيين وأني أجوع يومًا وأشبع يومًا ‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي قال‏:‏ أخبرنا أبو عمر الحسن بن عثمان الواعظ قال‏:‏ حدَّثنا جعفر بن محمد بن الحكم قال‏:‏ حدّثني أحمد بن الحسن الكسائي قال‏:‏ حدَثنا سليمان بن الفضل النهرواني قال‏:‏ حدَّثني يحيى بن أكثم قال‏:‏ بت ليلة عند المأمون فعطشت في جوف الليل فقمت لأشرب ماء فرآني المأمون فقال‏:‏ ما لك ليس تنام يا يحيى قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين أنا والله عطشان فقال‏:‏ ارجع إلى موضعك فقام والله إلى البرادة فجاءني بكوز فقام على رأسي فقال‏:‏ اشرب يا يحيى ‏.‏

فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين فهلا وصيف أو وصيفة فقال‏:‏ إنهم قال‏:‏ يا يحيى قلت‏:‏ لبيك يا أمير المؤمنين ‏.‏

قال‏:‏ ألا أحدثك ‏.‏

قلت‏:‏ بلى يا أمير المؤمنين ‏.‏

فقال‏:‏ حدّثني الرشيد قال‏:‏ حدثني المهدي قال‏:‏ حدثني المنصور عن أبيه عن ابن عباس قال‏:‏ حدّثني جرير بن عبد الله قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ سيد القوم خادمهم‏"‏‏.‏

حدثنا عبد الرحمن بن محمد قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي قال‏:‏ أخبرنا الجوهري قال‏:‏ أخبرنا محمد بن عمران المرزباني قال‏:‏ حدَّثنا أحمد بن محمد بن عيسى المكي قال‏:‏ حدثنا محمد بن القاسم بن خلاد عن يحيى بن أكثم قال‏:‏ ما رأيت أكرمِ من المأمون بتّ عنده ليلة فعطش فكره أن يصيح بالغلمان فرأيته قد قام قليلًا قليلًا إلى البرادة وبينه وبينها بُعد فشرب ورجع ‏.‏

قال يحيى بن أكثم‏:‏ ثم بت عنده ونحن بالشام فأخذ المأمون سعال فرأيته يسد فاه بكم قميصه حتى لا أنتبه ‏.‏

ثم حملني آخر الليل النوم فكان له وقت يستاك فيه فكره أن ينبهني فلما ضاق الوقت عليه تحركت ‏.‏

فقال‏:‏ الله أكبر يا غلمان نعل أبي محمد ‏.‏

قال يحيى‏:‏ وكنت أمشي معه يومًا في ميدان البستان والشمس عليً وهو في الظل فلما رجعنا قال لي‏:‏ كن الآن في الظل ‏.‏

فأبيت عليه فقال‏:‏ أول العدل أن يعدل الملك في بطانته ثم الذين يلونهم حتى يبلغ الطبقة السفلى

أخبرنا أبو منصور القزاز قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال‏:‏ أخبرنا محمد بن علي المقرئ قال‏:‏ أخبرنا محمد بن عبد الله النيسابوري قال‏:‏ سمعت أبا بكر بن داود بن سليمان الزاهد يقول‏:‏ سمعت محمد بن عبد الرحمن الشامي يقول‏:‏ سمعت أبا الصلت عبد السلام يقول‏:‏ حبسني المأمون ليلة فكنا نتحدث حتى ذهب من الليل ما ذهب وطفئ السراج ونام القيّم الذي كان يصلح السراج فدعاه فلم يجبه - وكان نائمًا - فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين أصلحه ‏.‏

فقال‏:‏ لا فأصلحه هو ثم انتبه الغلام فظننت أنه يعاقبه فسمعته يقول‏:‏ ربما أكون في المتوضأ فيشتموني ولا يدرون أني أسمع فاعف عنهم ‏.‏

أخبرنا أبو منصور القزاز قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال‏:‏ أخبرنا الجوهري قال‏:‏ أخبرنا محمد بن العباس قال‏:‏ حدَثنا الصولي قال‏:‏ حدثنا عون بن محمد قال‏:‏ حدَثنا عبد الله بن البواب قال‏:‏ كان المأمون يحلم حتى يغيظنا وانه في بعض الأوقات جلس يستاك على دجلة من وراء ستر ونحن قيام بين يديه فمر ملاَح وهو يقول بأعلا صوته‏:‏ أتظنون أن هذا المأمون ينبل في عيني وقد قتل أخاه‏!‏ قال‏:‏ فوالله ما زاد على أن تبسم وقال‏:‏ ما الحيلة عندكم حتى أنبل في عين هذا الرجل الجليل‏.‏

أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر أحمد بن ثابت قال‏:‏ أخبرنا علي بن أبي علي المعدل قال‏:‏ حدَثنا أبو بكر بن عبد الرحيم المازني قال‏:‏ حدًثنا الحسين بن القيم الكوكبي قال‏:‏ حدَثنا أبو الفضل الربعي قال‏:‏ لما وُلد أبو جعفر بن المأمون دخل المهنئون على المأمون فهنأوه بصنوف التهاني وكان فيمن دخل عليه العباس بن الأحنف فمثل قائمًا بين يديه ثم أنشأ يقول‏:‏ مَد لك اللهّ الحياة مدًَّا حتى يريك ابنك هذا جدِّا ثم يفدّى مثل ما تفَدّى كأنه أنت إذا تبدَّا أشبه منك قامةً وقدًَا مؤزرًا بمجده مُردى فأمر له بعشرة آلاف درهم ‏.‏

أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك قال‏:‏ أخبرنا جعفر بن أحمد قال‏:‏ أخبرنا عبد العزيز بن الحسن الضراب قال‏:‏ حدًثنا أبي قال‏:‏ حدَثنا أحمد بن مروان قال‏:‏ حدًثنا الحسن بن علي الربعي قال‏:‏ حدَّثني قحطبة بن حميد بن الحسن بن قحطبة قال‏:‏ كنت واقفًا على رأس المأمون يومًا وقد قعد للمظالم فأطال الجلوس حتى زالت الشمس وإذا امرأة قد أقبلت تعثر في ذيلها حتى وقفت على طرف البساط فقالت‏:‏ السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته فنظر المأمون إلى يحيى بن أكثم فأقبل يحيى عليها فقال‏:‏ تكلمي ‏.‏

فقالت‏:‏ يا أمير المؤمنين قد حيل بيني وبين ضيعتي وليس لي ناصر إلا الله ‏.‏

فقال لها يحيى بن أكثم‏:‏ إن الوقت قد فات ولكن عودي يوم الخميس ‏.‏

قال‏:‏ فرجعت فلما كان يوم الخميس قال المأمون‏:‏ أول من يُدعى المرأه المظلومة فدعا بها ‏.‏

فقال‏:‏ أين خصمك ‏.‏

قالت‏:‏ واقف على رأسك يا أمير المؤمنين قد حيل بيني وبينه وأومأت إلى العباس ابنه فقال لأحمد بن أبي خالد‏:‏ خذ بيده وأقعده معها ففعل فتناظرا ساعة حتى علا صوتهما عليه فقال لها أحمد بن أبي خالد‏:‏ إنك تناظرين الأمير أعزه الله بحضرة أمير المؤمنين أطال الله بقاءه فأخفضي عليك ‏.‏

فقال له المأمون‏:‏ دعها يا أحمد فإن الحق أنطقها والباطل أخرسه فلم تزل تناظره حتى حكم لها المأمون عليه وأمر برد ضيعتها وأمر ابن أبي خالد أن يدفع لها عشرة آلاف درهم ‏.‏

وروى الصولي‏:‏ أنه رُفع إلى المأمون أن خادمه رشد الأسود يسرق طساسه وأباريقه وكان على وضوئه فعاتبه في ذلك فقال‏:‏ رزقي يقصر عني فأضعفه له ثم فقد بعد ذلك طستا وإبريقًا فقال‏:‏ بعني ويحك الشيء إذا أخذته قال‏:‏ فاشتر مني هذا الطست وهذا الإبريق قال‏:‏ بكم قال‏:‏ بخمسة دنانير فقال‏:‏ ادفعوا له خمسة دنانير فقال له رشد‏:‏ بقي والله هذان ما بقي الزمان فقال له المأمون‏:‏ قد رأيت المعاملة فكل من تعلم أنه يسرق مني شيئًا فقل له يبيعنيه ‏.‏

وقال المأمون‏:‏ أنا والله أستلذ العفو حتى أخاف أن لا أؤجر عليه ولو علم الناس مقدار محبتي وفي هذه السنة‏:‏ كتب المأمون إلى هرثمة يأمره بالشخوص إلى خراسان ‏.‏

وفيها‏:‏ خرج خارجي يقال له الهِرْش في ذي الحجة يدعو بزعمه إلى الرضى من آل محمد ومعه جماعة من سفلة الناس وجمع كثيرًا من الأعراب فأتى النيل فجبى الأموال وأغار على التجار وانتهب القرى وساق المواشي ‏.‏

وحج بالناس في هذه السنة العباس بن موسى بن عيسى بن محمد بن علي ‏.‏

 ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

سفيان بن عيينة بن أبي عمران بن محمد مولى لبني هاشم بن رؤبة وقيل‏:‏ مولى محمد بن مزاحم الهلالي ‏.‏

ولد بالكوفة سنة سبع ومائة وكان أبوه من عمال خالد القسري فلما عزل خالد عن العراق وولي يوسف بن عمر طلب عمال خالد فهربوا منه وهرب عيينة فسكن مكة ‏.‏

وكان لسفيان تسعة أخوة حدَث منهم أربعة‏:‏ محمد وآدم وعمران وإبراهيم وكان سفيان مقدمًا على الكلّ ‏.‏

وقال أبو أحمد محمد بن أحمد النيسابوري الحافظ‏:‏ كان بنو عيينة عشرة خزازين حدّث منهم خمسة - فذكرهم - وأخوال بني عيينة‏:‏ بنو بني المتَّئد حدّث منهم يوسف ويعقوب ونعيم بن يعقوب بن المتئد وأدرك سفيان ستة وثمانين نفسًا من التابعين ‏.‏

وروى عنه من الكبار الأعمش والثوري وشعبة وابن المبارك ووكيع وابن مهدي والشافعي وأحمد ويحيى وكتب عن سفيان بن عيينة وهو ابن خمسة وثلاثين سنة قبل موت الأعمش بخمس سنين وحدث في مجلس الأعمش ‏.‏

أخبرنا محمد بن ناصر قال‏:‏ أخبرنا محمد بن ميمون قال‏:‏ أخبرنا عبد العزيز بن أحمد النصيبي قال‏:‏ حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن الليث الدينوري قال‏:‏ حدًثني الليث بن عبيد الله قال‏:‏ حدّثني أبو الميمون محمد بن عبد الله قال‏:‏ حدثنا زكريا بن يحيى بن عبيد العطار قال‏:‏ حدَثنا إبراهيم بن ازداد الرافقي قال‏:‏ قال لي سفيان بن عيينة‏:‏ لما بلغت خمس عشرة سنة دعاني أبي فقال لي‏:‏ يا سفيان قد انقطعت عنك شرائع الصب من الخير فاحتفظ من الخير تكن من أهله لا يغرنك مَنْ اغتر بالله فمدحك بما تعلم خلافه منك فإنه ما من أحد يقول في أحد من الخير إذا رضي إلا وهو يقول فيه من الشر مثليك إذا سخط فاستأنس بالوحدة من جلساء السوء ولا تنقل أحسن ظني بك إلى غير ذلك ولن يسعد بالعلماء إلا مَنْ أطاعهم ‏.‏

قال سفيان‏:‏ فجعلت وصية أبي قبلة أميل معها ولا أميل عنها ‏.‏

أنبأنا علي بن محمد بن أبي عمر عن أبي طاهر أحمد بن الحسن الباقلاوي عن أبي العلاء محمد بن علي بن يعقوب عن عبد الله بن موسى السلامي قال‏:‏ سمعت عمار بن علي اللوزي يقول‏:‏ سمعت أحمد بن النضر الهلالي يقول‏:‏ سمعت أبي يقول‏:‏ كنت في مجلس سفيان بن عيينة فنظر إلى صبي دخل المسجد فتهاونوا به لصغر سنه فقال سفيان‏:‏ ‏{‏كذلك كنتم من قبل فمنَّ اللّه عليكم‏}‏ ثم قال‏:‏ يا نصر لو رأيتني ولي عشر سنين طولي خمسة أشبار ووجهي كالدينار وأنا كشعلة نار ثيابي صغار وأكمامي قصار وذيلي بمقدار ونعلي كآذان الفار اختلف إليّ علماء الأمصار مثل الزهري وعمرو بن دينار أجلس بينهم كالمسمار محبرتي كالجوزة ومقلمتي كالموزة وقلمي كاللوزة فإذا دخلت المجلس قالوا‏:‏ أوسعوا للشيخ ثم تبسم ابن عيينة وضحك ‏.‏

أخبرنا محمد بن عبد الله بن حبيب قال‏:‏ أخبرنا علي بن أبي صادق قال‏:‏ أخبرنا ابن باكويه قال‏:‏ حدَّثنا عبد الواحد بن بكر قال‏:‏ حدَّثني القاسم بن الحسن السامري قال‏:‏ حدّثني العباس بن يوسف الشِّكْلي قال‏:‏ حدَثنا بشر بن مطر قال‏:‏ كنا على باب سفيان بن عيينة فجاءت طائفة فدخلوا وطائفة أخرى فدخلوا فصحنا وقلنا‏:‏ يجيء أصحاب الدراهم والدنانير فيدخلون ونحن الفقراء وأبناء السبيل نمنع الدخول‏!‏ فخرج إلينا وهو يبكي فقال لنا‏:‏ أصبتم مقالًا فقولوا هل رأيتم صاحب عيال أفلح ثم قال‏:‏ أعلمكم أني كنت أوتيت فهم القرآن فلما أخذت مال أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال‏:‏ أخبرنا محمد بن عبد الله بن أحمد بن شهريار قال‏:‏ أخبرنا سليمان بن أحمد الطبراني قال‏:‏ حدًثنا أبو بكر بن أحمد بن عبد الله الطرسوسي قال‏:‏ سمعت حامد بن يحيى البلخي يقول‏:‏ سمعت سفيان بن عيينة يقول‏:‏ رأيت كأني أسناني كلها سقطت فذكرت ذلك للزهري فقال‏:‏ يموت أصحابك وتبقى أنت وحدك ‏.‏

فمات أصحابي وبقيت ‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي قال‏:‏ أخبرنا علي بن الحسن بن محمد الدقاق قال‏:‏ حدَثنا محمد بن إسماعيل الوراق قال‏:‏ حدَّثنا ابن صاعد قال‏:‏ حدَثنا أبو بكر الأثرم قال‏:‏ سمعت أحمد بن حنبل - وذكر سفيان بن عيينة - قال‏:‏ ما رأينا مثله ‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي قال‏:‏ أخبرنا علي بن محمد المعدًل قال‏:‏ أخبرنا ابن صفوان قال‏:‏ أخبرنا ابن أبي الدنيا قال‏:‏ أخبرنا محمد بن سعد قال‏:‏ أخبرني الحسن بن عمران بن عيينة أن سفيان قال له بجمع آخر حجة حجها‏:‏ قد وافيت هذا الموضع سبعين مرة أقول في كل سنة‏:‏ اللهم لا تجعله آخر العهد من هذا المكان وقد استحييت من الله من كثرة ما أسأله ذلك ‏.‏

فرجع فتوفي في السنة الداخلة ‏.‏

قال ابن سعد‏:‏ وقال الواقدي‏:‏ أخبرني سفيان أنه وُلد سنة سبع ومائة ومات أول يوم من عبد الرحمن بن مهدي بن حسان بن عبد الرحمن أبو سعيد العنبري ولد سنة خمس وثلاثين ومائة ‏.‏

سمع سفيان الثوري ومالكًا وشعبة والحمادين وخلقًا كثيرًا ‏.‏

روى عنه‏:‏ ابن المبارك وابن المديني وأحمد بن حنبل ويحيى وغيرهم وكان من كبار العلماء وأحد المذكورين بالحفظ والفقه وكان شديد الحب لحفظ الحديث ‏.‏

فأخبرنا أبو منصور القزاز قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي قال‏:‏ أخبرنا حمزة بن محمد بن طاهر قال‏:‏ أخبرنا الوليد بن بكر الأندلسي قال‏:‏ حدَّثنا علي بن أحمد بن زكريا الهاشمي قال‏:‏ حدَثنا صالح بن أحمد بن عبد الله العجلي قال‏:‏ حدَثني أبي وذكر عبد الرحمن بن مهدي - قال‏:‏ قال له رجل‏:‏ أيما أحب إليك يغفر الله لك ذنبًا أو تحفظ حديثًا قال‏:‏ أحفظ حديثًا ‏.‏

وقال أحمد بن حنبل‏:‏ إذا حدّث عبد الرحمن عن رجل فهو حجة ‏.‏

وقال ابن المديني‏:‏ كان عبد الرحمن أعلم الناس ولو أني أخذت فخُلَفتُ بين الركن والمقام لحلفت بالله أني لم أر أحدًا قط أعلم بالحديث من عبد الرحمن بن مهدي ‏.‏

وقال محمد بن يحيى‏:‏ ما رأيت في يد عبد الرحمن كتابًا قط وكل ما سمعته منه سمعته حفظًا

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن ثابت قال‏:‏ أخبرني محمد بن عبد الملك القرشي قال‏:‏ حدثنا علي بن عمر الحافظ قال‏:‏ أخبرنا أبو عبد الله أحمد بن علي بن العلاء قال‏:‏ أخبرنا أبو إسحاق إسماعيل بن الصلت بن أبي مريم قال‏:‏ حدَّثنا علي بن المديني قال‏:‏ كان عبد الرحمن بن مهدي يختم في كل ليلتين وكان ورده في كل ليلة نصف القرآن ‏.‏

قال ابن المديني‏:‏ توفي عبد الرحمن سنة ثمان وتسعين وهو ابن ثلاث وستين سنه عمرو بن الهيثم بن قطن بن كعب أبو قطن القطعي البصري قدم بغداد وحدّث بها عن شعبة وهشام الدستوائي وروى عنه أحمد ويحيى وقال‏:‏ هو ثقة ‏.‏

وتوفي في شعبان هذه السنة ‏.‏

محمد الأمين قال مؤلف الكتاب‏:‏ قد ذكرنا كيفية قتله في الحوادث وقتل لست بقين من المحرم سنة ثمان وأربعين ومائة وكان عمره ثلاثة وثلاثين وقيل‏:‏ ثمانية وعشرين وكانت خلافته مع زمان الفتنة أربع سنين وثمانية أشهر وخمسة أيام وقيل‏:‏ وسبعة أشهر وثمانية أيام ‏.‏

وقيل‏:‏ وستة أشهر وكان قد تزوج لبابة بنت المهدي ولم يدخل بها فقالت حين قتل ترثيه‏:‏ أبكيك لا للنعيم والأنس بل للمعالي والرمح والفرس أبكي على هالك فجعت به أرملني قبل ليلة العرس وقيل‏:‏ إن هذا لابنه عيسى وكانت مملكة بمحمد محمد بن مناذر الشاعر يكنى أبا ذريح ‏.‏

وقيل‏:‏ أبا جعفر ‏.‏

وقيل‏:‏ أبا عبد الله ‏.‏

كان مولى سليمان القهرماني وكان سليمان مولى عبيد الله بن أبي بكرة ‏.‏

سمع محمدًا وشعبة وسفيان بن عيينة وغيرهم ‏.‏

وكان شاعرًا فصيحًا ومدح المهدي وكان عالمًا باللغة ‏.‏

قال الثوري‏:‏ سألت أبا عبيدة عن اليوم الثاني من النحر ما كانت العرب تسميه فقال‏:‏ لا أعلم فلقيت ابن مناذر فأخبرته فقال‏:‏ أسقط مثل هذا على أبي عبيدة وهي أربعة أيام متواليات كلها على حرف الراء الأول‏:‏ يوم النَّحر والثاني‏:‏ يوم الفر والثالث‏:‏ يوم النفر و الرابع‏:‏ يوم الصدر‏.‏

فلقيت أبا عبيدة فحدثته فكتبه عني عن محمد بن مناذر ‏.‏

وكان محمد بن مناذر يتعبد ويتنسك ويلازم المسجد ثم هوى عبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي فتهتك وعدل عن التنسك وأظهر الخلاعة وكان عبد المجيد من أحسن الناس وجهًا وأدبًا ولباسًا وكان يحب ابن مناذر أيضًا فتزوج عبد المجيد امرأة وأولم عليها شهرًا يجتمع عنده أهل البصرة فصعد ذات يوم إلى السطح فرأى طنبًا من أطناب الستارة قد انحل فأكب عليه يشده فتردى على رأسه ومات من سقطته فما رأيت مصيبة أعظم من مصيبته ورثاه ابن مناذر فقال‏:‏ إن عبد المجيد يوم تولى هدَّ ركنًا ما كان بالمهدود ما درى نعشه ولا حاملوه ما على النعش من عفاف وجود قال يحيى بن معين‏:‏ كان ابن مناذر صاحب شعر لا صاحب حديث وكان يتعشق ابن عبد الوهاب ويقول فيه الشعر وتشبب بنساء ثقيف فطردوه من البصرة فخرج إلى مكة فكان يرسل العقارب في المسجد الحرام حتى يلسعن الناس ويصب المداد بالليل في المواضع التي يتوضأ الناس منها حتى تسود وجوههم لا يروي عنه رجل فيه خير يحيى بن سعيد بن فروخ أبو سعيد القطان الأحولولد سنة عشر ومائة سمع هشام بن عروة ويحيى بن سعيد الأنصاري والأعمش وسفيان وغيرهم ‏.‏

روى عنه‏:‏ ابن مهدى وعفان وأحمد وعلي ويحيى وغيرهم وقال علي‏:‏ لم أر أحدًا أثبت من يحيى بن سعيد ولا أعلم بالرجال ‏.‏

وقال أحمد‏:‏ ما رأت أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال‏:‏ قرأت على الحسن بن أبي بكر عن أحمد بن كامل القاضي قال‏:‏ حدَثني الحسن بن الحباب قال‏:‏ حدَّثنا سليمان بن الأشعث قال‏:‏ سمعت يحيى بن معين يقول‏:‏ أقام يحيى بن سعيد عشرين سنة يختم القرآن في كل ليلة ولم يفته المسجد أربعين سنة وما رؤي يطلب جماعة قط ‏.‏

توفي يِحيى بن سعيد في صفر هذه السنة ‏.‏